الربانية دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
يقول الله تعالى ذكره { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران(79-80)،
هاتان الآيتان: كما هي آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية- ينبغي أن نقف عندهما لنتدبر ما فيهما من هداية وإرشاد، ونتفهم ما تدلان عليه من أجكام وتشريع، ويستوي في ذلك التدبر وذلك التفهم - الدعاة إلى الله عز وجل على بصيرة- وسائر علماء الأمة كما ينتظم في هذا السلك الأمراء والحكام والموجهون والمربون بل والأمة كلها - على تفاوت عقول الناس واختلاف مشاربهم - يجب علينا جميعاً التدبر والتفهم لدلائل الوحي كتاباً وسنة . وقد نقل ابن كثير رحمه الله في سبب نزول الآية في تفسيره المعروف(1) (1/385) عن ابن عباس قال : { قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من
اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ . فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أوذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ . أو كما قال، فقال رسول الله : معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني} أو كما قال رسول الله ، فأنزل الله في ذلك من قولهما : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} إلى قوله{بعد إذ أنتم مسلمون }.
ثم قال ابن كثير :
[ ثم قال الله تعالى : {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا }، أي لا يأمركم بعبادة أحد غير الله لا نبي مرسل ولا ملك مقرب
{ أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِي} الأنبياء(25)،وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} النحل(36)،وقال إخباراً عن الملائكة :{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الأنبياء (29).
وقال أيضًا:
[ . . فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا المؤمن أن يأمر الناس بعبادته . قال : ذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضاً يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}التوبة(31)،وفي المسند والترمذي -كما سيأتي- أن عدي ابن حاتم قال : يا رسول الله ما عبدوهم، قال : بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا لهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم . فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء والعاملين؛ فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به وبَلَّغَتهم إياه رسله الكرام، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنهم، وبَلَّغَتهم إياه رسله الكرام، فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة، فقاموا بذلك أتم القيام، ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق، وقوله :
{ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}، أي يقول الرسول للناس : {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}. قال ابن عباس وأبو زيد وغير واحد أي حكماء علماء حلماء، وقال الحسن وغير واحد: فقهاء . . . إلخ .
وقال ابن جرير(2)في جامع البيان(3/322) رحمه الله تعالى : [ . . يعني بذلك جل ثناؤه وما ينبغي لأحد من البشر؛ والبشر جميع بني آدم، ولا واحد له من لفظه، مثل القوم والخلق، وقد يكون اسماً لواحد {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ}يقول: أن ينزل الله عليه كتابه،{ والحكم} يعني : ويعلمه فصل الحكمة،{ والنبوة} يقول : ويعطيه النبوة،
{ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}، يعني : ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة، ولكن إذا آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم بالله، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه، وأئمة في طاعته وعبادته بكونهم معلمي الناس الكتاب وبكونهم دارسيه ] أ .هـ .
وقال الإمام البخاري في صحيحه كتاب العلم :
[ باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}(محمد 19)، فبدأ بالعلم . . . ويقال : الرباني يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ] .
وقال الإمام أحمد بن على بن حجر في فتح الباري(3)(1/161-162) : [ . . . وقد فسر ابن عباس الرباني بأنه الحكيم الفقيه، ووافقه ابن عباس فيما رواه إبراهيم الحربي في غريبه عنه بإسناد صحيح، وقال الأصمعي والإسماعيلي : الرباني نسبة إلى الرَّبِّ، أي الذي يقصد ما أمره الرَّبُّ بقصده من العلم والعمل، وقال ثعلب : قيل للعلماء ؛ ربانيون لأنهم يَرُبُّونَ العلم أي يقومون به وزيدت الألف والنون للمبالغة والحاصل أنه اختلف في هذه النسبة هل هي نسبة إلى الرَّبِّ أو إلى التربية، والتربية على هذا للعلم، وعلى ما حكاه البخاري لتعلمه، والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دّقَّ منها، وقيل يعلمهم جزيئاته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده، وقال ابن الأعرابي : لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالماً معلماً عاملاً . وفي قوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(آل عمران 146) .
قال ابن جرير : [ . . . وأما الربيون فإن أهل العربية اختلفوا في معناه، فقال بعض نحويي البصرة هم الذين يعبدون الرب واحدهم ربي . وقال بعض نحويي الكوفة لو كانوا منسوبين إلى عبادة الرَب لكانوا ربيون بفتح الراء، ولكنه العلماء . . . ثم نقل عن ابن عباس : {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قال علماء كثير ] . وقال القرطبي : [ . . . قال الخليلي : الربي الواحد من العبادة الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى ]
والخلاصة:
*الملائكة والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم من العلماء والدعاة هم عبادٌ متألهون لله رب العالمين .
*أن دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كانت إلى عبادة الله سبحانه وتعالى واجتناب عبادة الطاغوت فهي دعوة ربانية .
*الرباني هو المتعبد المتأله لله عزوجل، الصابر المتصبر المصطبر على عبادته، وما يصيبه من لأواء أو أذى في سبيل الله عزوجل، الذي يدعو الناس ويربيهم على التعبد لله وحده دون سواه ويتدرج معهم في مراقى الربانية بالعلم والعمل جميعاً فلا عمل إلا بعلم .
*المؤهلات للربانية ( التعليم والدراسة) . . . ولكن كيف تكون الربانية !!
فهي الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى
--------------------------------------------------
(1)تفسير القرآن العظيم- الحافظ إسماعيل بن كثير-دار المعرفة / بيروت 1413هـ -1993م .
(2)جامع البيان- ابن جرير الطبري- ط(1) دار الكتب العلمية - بيروت 1412هـ - 1992م .
(3)فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر - دار الفكر
نشر في المجلة الاستقامة العدد الرابع عشر