دعوة الحق بيان وتقديس لا جحود وتلبيس 2011/03/12

دعوة الحق بيان وتقديس لا جحود وتلبيس

(الحلقة الثانية)

 

عرفنا مما سبق أن دعوة الحق قديمة، فهي دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ودعوة أتباعهم من بعدهم، وأنها في الحقيقة هي الدعوة إلى الله تعالى . قال جل شأنه : )له دعوة الحق(الرعد [14] ، فهي الدعوة إلى توحيد الله وتمجيده، وطاعته وحسن عبادته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه، وهي دعوة السلف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وسائر علماء المسلمين في الصدر الأول وعلى رأسهم الأئمة الأربعة المتبعون أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد أهل القرون الثلاثة المفضلة؛ وسبق ذكر الحديث المأثور من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: }خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته{،ومن رواية عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: }.... ثم إن بعدكم قرناً يشهدون ولا يُستَشْهَدُون، ويخونون ولا يُؤْتَمَنُون، وينذِرون ولا يُوْفُون، ويظهر فيهم السِّمَنُ{رواهما البخاري [4/189] والحديث في السلسلة الصحيحة برقم (700) .

 

مضى الناس في القرون الثلاثة على الاعتقاد الصحيح، والدين المستقيم، فكان الاتباع والاستقامة السمة الظاهرة، والعلامة الباهرة، حتى بدأ الخلاف والاختلاف في الظهور، وهذا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه عنه العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : }صلى بنا رسول اللهصلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع؛ فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة{أخرجه أبو داود [4/101] والترمذي [5/44] وابن ماجه [1/15،16] وأحمد [4/126،127] .

 

فدعوة الحق إنما جاءت لإحقاق الحق في أمر الدين والدنيا، ففي الدين قال الله عز وجل :)اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً(المائدة [3] ، وأما في أمر الدنيا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : {أنتم أعلم بأمور دنياكم{(*).

 

ففي الدين لا مجال للزيادة فهو كامل، ولا للنقص فهو حكيم، وأما في الدنيا فقد ترك الإسلام الأمر للبحث والخبرة والتجربة، فأبن يا أخي الحبيب، ويا أيها الفطن الأريب هذا :

 

*أين هذا البيان لدعوة الحق من ظن الذين ظنوا أن دعوة الحق هي دعوة إلى همهمات ودمدمات، وزمزمات ودندنات ، وشطحات وخيالات، جاءوا بها من عند أنفسهم لم ترد في كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا تابع ولا فقيه ؟! ، وألفوا فيها المؤلفات وجاءوا فيها بالعبارات والإشارات والرموز والألفاظ التي ادعوا أنهم المختصون فقط بها من الله وليس لغيرهم فيها فهم ولا فقه وجعلوها بدلاً من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

 

*أين هذا البيان لدعوة الحق من ظن الذين ذهبوا إلى أن دعوة الحق هي الدعوة إلى الأذكار، ومكارم الأخلاق، وجميل العادات،فلم يعتنوا بتصحيح الاعتقاد والعبادة والمعاملة ؟!! .

 

*وأين هذا البيان لدعوة الحق من ظن الذين قدسوا مع كتاب الله كتباً، ومع هدي رسول الله مناهج وطرقاً ورسوماً أحلوها محل الوحي المنزل، وجعلوا حولها هالة من القداسة والهيبة، زاعمين أنها فقط هي منبع الهداية والرشاد، فهجروا كتاب الله واتبعوها، وتركوا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأطاعوها ؟! .

 

*وأين هذا البيان لدعوة الحق من ظن الذين ذهبوا إلى تقديس جنس من الأجناس، أو فرد من الناس، فرفعوا الخلق إلى منزلة الخالق، فاعتقدوا فيمن عظموه الكمال والجلال وألهوه فطغوا عن حد الاعتدال ؟! .

 

*وأين هذا البيان لدعوة الحق من ظن الذين غيروا وبدلوا وزادوا ونقصوا وادعوا أن لهم الحق في الإضافات والزيادات، والتغييرات والانتقاصات، في شريعة رب الأرض والسماوات،فهي في زعمهم تنظم العلاقة الشخصية بين الفرد وربه، ولا علاقة لها بتنظيم العلاقة بين الناس، فعبّدوا الناس للناس دون الله عز وجل خالق الخلق وسيدهم، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم .

 

* وأين هذا البيان لدعوة الحق من ظن الفلاسفة والكلاميين، وسفسطات المتحذلقين، وهرطقات الأفاكين الآثمين ؟

 

* بل أين هذا البيان لدعوة الحق من اجتراء واعتداء الطاغين بسفك الدماء البريئة، وقذف الأعراض البريئة، وأكل الأموال بالباطل، فخرجوا على المسلمين فذبحوهم، وعلى الآمنين فأفزعوهم، فحققوا أحلام الكافرين، ورغائب الملحدين ، بما أشعلوا من فتن، وما أوقعوا من محن، وأنزلوا بالعباد والبلاد الرزايا والبلايا، التي فرقت الجموع، ومزقت الصفوف فأورثت الاختلاف بعد الائتلاف، والمحادة بعد الموادة، وذلك بما بعدوا عن الجادة، ووقعوا في المشادة والتنطع وقد هلك المتنطعون وأهلكوا.

 

قال الإمام أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري (المتوفى عام 327 هـ )وهو إمام أهل السنة في زمانه :]... واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: }ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة . قيل من هم يا رسول الله ؟، قال : ما أنا عليه اليوم وأصحابي{... إلى أن قال : وكان الأمر مستقيماً حتى كانت الطبقة الرابعة في خلافة (فلان) انقلب الزمان وتغير الناس جداً وفشت البدع وكثر الدعاة إلى غير سبيل الحق والجماعة، ووقعت المحنة في كل شيء لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ودعوا إلى الفرقة، وقد نهى الله عز وجل عن الفرقة، وكفّر بعضهم بعضاً، وكل دعا إلى رأيه وإلى تكفير من خالفه، فضل الجهال والرعاع ومن لا علم له، وأطمعوا الناس في شيء من أمر الدنيا، وخوفوهم عقاب الدنيا، فاتبعهم الخلق على خوف في دينهم، ورغبة في دنياهم، فصارت السنة وأهل السنة مكتومين، وظهرت البدعة وفشت .. إلخ{كتاب شرح السنة [40،41].

 

فانظر رحمك الله يا أخي: كان الخلاف وكان الافتراق، وكان اتباع السبل وتأليه الهوى، حتى قامت سوق الجهال بالبدع فأذاعوها، وراجت أقوال الأنذال والزنادقة وأشاعوها، فانبرت المجوسية الرافضية الباطنية في ثياب الشيعة العلوية، وخرجت الخوارج على الأمة والأئمة، ونفقت أباطيل الاعتزال والإرجاء والتهجم والكلام، وصار لكل دهماء ناعق وإمام، وانتشرت السفسطات والفلسفات، حتى امتد السوء إلى قبلة الإسلام والمسلمين، فجاءت الباطنية إلى بيت الله الحرام، وبلد الله الحرام، فسفكوا الدم الحرام، واستباحوا العرض الحرام، وأكلوا المال الحرام، واغتصبوا الحجر الأسود فانتقلوه، وإلى بلادهم احتملوه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال الإمام عبد القاهر البغدادي في كتابه الفرْق بين الفِرَق تحت عنوان (في ذكر الباطنية وبيان خروجهم عن الإسلام )[صفحة 274،275] : ].. وظهرت بعدها فتنة سليمان بن الحسن في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة فإنه كبس فيها البصرة وقتل أميرها ... وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة دخل مكة وقتل من وجده في الطواف وقيل إنه قتل بها ثلاثة آلاف، وأخرج منها سبعمائة بكر واقتلع الحجر الأسود وحمله إلى البحرين ..{اهـ .

 

والافتراق والاختلاف - وإن كان قد شاع وذاع في ذلك الحين-بدأت بوادره من قبل، فالرافضة المتسترة بالتشيع وكذلك الخوارج ابتدأ ظهورهم في عهد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وأما الاعتزال ونفي القدر ففي أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم في أواخر المائة الأولى وأوائل المائة الثانية وكذلك التجهم أو الجهمية ومثلها الباطنية الضالة، قال الدكتور محمد أحمد الخطيب في كتابه الحركات الباطنية في العالم الإسلامي عقائدها وحكم الإسلام فيها(صـ20):}... على أن الباحث في نشأة الباطنية في العالم الإسلامي لابد أن يُلم بنشأة الشيعة لأن التشيع كان ثوباً يتستر وراءه كل من يريد أن يبذر الفتن ضد الإسلام والمسلمين، ومأوىً يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام بإدخال تعاليم آبائه وأجداده من يهودية ونصرانية وهندوسية وأفلاطونية .. إلخ{اهـ .

 

ولذلك }... كان هؤلاء الباطنيون كما قيل فيهم : ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض {الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة صـ(78) للشيخ عبد القادر شيبة الحمد .

 

على أنه وإن كان أهل الأهواء الضالة والفرق الزائفة قد ابتدأ ظهورهم قديماً، إلا أن السمة الغالبة، والكفة الراجحة والحجة الدامغة، كانت في القرون الثلاثة المفضلة لسلفنا الصالح رضي اله عنهم، ثم استشرت بعد ذلك وانتشرت الضلالات والانحرافات، حتى قالسفيان الثوري ليوسف بن أسباط رحمهما الله: }يا يوسف إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام فقد قل أهل السنة والجماعة{تلبيس إبليس صـ(9) .

 

وما زال أمر السنة في ضعف، وأمر البدعة في رواج، حتى ظهرت فرق كثيرة في العصور المتأخرة، مثل البابية أو البهائية والقاديانية والبهرة وغيرها من الفرق التي تركت دعوة الحق إلى دعوات غيرها، من شيوعية إلحادية إباحية ساقطة، إلى حداثية ووجودية هابطة، وكذلك دعوات إلى إحياء مآثر قرون خالية، وأمم بالية، مثل الفرعونية والفينيقية والبابلية والسريانية، وصار الاعتزاز بالانتساب إلى غير الإسلام، ونبز من يرجع هذا الجمود الذي عليه المسلمون والفساد في شتى صوره نبذ من يرجعه إلى الدين، فصار يدعو إلى نبذ الدين واللحاق بالغرب في كل شيء، في الأخلاق وفي السلوك، وفي الفكر والثقافة، وفي أنماط الحياة، وغير ذلك من الدعوات الغريبة المنافية للشريعة الإسلامية، وللفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل عليها البشر، حتى صار المسلمون نهباً لأطماع أعدائهم، فاستباح الأعداء بلاد الإسلام فاغتصبوها، وأخذوا أموال المسلمين فاقتسموها، فصار المسلمون عبيداً بعد أن كانوا سادة، وانقسموا دويلات ممزقة، وأُمماً مفرقة، ودالت دولتهم، وانكسرت شوكتهم حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن من حال لا يحسدون عليها، من افتراق الكلمة، وتشتت الجماعة، والوَهْن وكما في حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ]توشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل يا رسول الله : فمن قلة يومئذ ؟ قال لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل يُجْعل الوهن في قلوبكم ويُنزع الرعب من قلوب أعدائكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت[حديث رقم 8183 صحيح الجامع الصغير وزيادته 2/1359 .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصادر والمراجع :

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

(*)رواه مسلم في فضائل الصحابة حدبث رقم (14)، وابن ماجه في كتاب الرهون باب رقم (15)، وأحمد في مسنده (6/123) بالمعنى .

 

1- الجامع الصحيح للإمام محمد بن إسماعيل البخاري ت سنة256هـ- المكتبة الإسلامية - استانبول - تركيا .

 

2- السنن للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث ت سنة275هـ- بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - دار إحياء السنة النبوية - مصر.

 

3- السنن للإمام أبو عيسى محمد بن إسماعيل الترمذي ت سنة279هـ - مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر .

 

4- السنن للإمام أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه ت سنة275هـ - دار الفكر .

 

5- مسند الإمام أحمد للإمام أحمد بن حنبل ت سنة241هـ - دار الفكر .

 

6- السلسلة الصحيحة للمحدث محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - بيروت .

 

7- صحيح الجامع الصغير للمحدث محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - بيروت .

 

8- شرح السنة للإمام أبي محمد الحسن بن علي بن خلف ت سنة329هـ - رمادي للنشر .

 

9- تلبيس إبليس للإمام أبي الفرج ابن الجوزي ت سنة597هـ - دار الفكر - بيروت .

 

10- الفَرق بين الفِرق للإمام عبد القاهر البغدادي ت سنة429هـ - دار الآفاق الجديدة - بيروت

 

11- الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة للشيخ عبد القادر شيبة الحمد - الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة .

 

12- الحركات الباطنية في العالم الإسلامي - عقائدها وحكم الإسلام فيها - الدكتور محمد أحمد الخطيب مكتبة الأقصى ط2 عمان - الأردن.

طباعة 1858

أنا العبد الفقير إلى الله الغني به عما سواه أبو عبد الله ياسين بن خالد بن أحمد الأسطل مواليد محافظة خان يونس في بلدة القرارة بعد عصر الأحد في 8ربيع الأول 1379 هجرية الموافق 21\9\1959 إفرنجية....

مــا رأيـك بـالـموقـع