اللغة العربية مظاهر وعوامل الضعف اللغوي عند أهلها(2) 2011/03/15

 

اللغة العربية مظاهر وعوامل الضعف اللغوي عند أهلها

بقلم الشيخ/ ياسين الأسطل الرئيس العام للمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين

 

 

سبق لنا في الحلقة السابقة الحديث عن مظاهر الضعف اللغوي، وحديثنا الآن إنما هو عن العوامل التي أدت إلى تلك المظاهر الصارخة على ضعف اللغة العربية عند أهلها من العرب والمسلمين قاطبة، في هذا الزمان الذي يتفاخر أهله بأنه عصر العلم والنور، وفي نظري أن تلك العوامل التي نخرت في جسم الأمة كلها بوجه عام وفي لسانها بوجه خاص؛ يمكن أن ترجع إلى ما هو ناشيء فيها، وما هو خارج عنها، و ما كان نابعاً من داخل الأمة الإسلامية نفسها هو الذي أدى إلى ما هو خارج عنها ، فلولا ضعف الداخل لما طمع العدو في الخارج،
ويمكننا أن نذكر من جملة تلك الأسباب:
1-الاختلاط بين العرب
و العجم من المسلمين:
 فهذا الاختلاط أدى إلى تداخل اللسان العربي بألسنة الأعاجم، ويمكن أن نقول إن هذا التداخل أدى إلى فشو اللحن عند الناس، مما دفع العلماء إلى وضع العلوم التي تضبط اللسان والآداب، ومن ذلك علم النحو والصرف والبلاغة وغيرها، قال الإمام أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي- رحمه الله - : [ . . . ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها، حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل الناس فيه أفواجاً، وأقبلوا إليه أرسالاً، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة واللغات المختلفة ففشا الفساد في اللغة العربية، واستبان منه الإعراب الذي هو حَلْيُها، والموضح
لمعانيها . . . فعظم الإشفاق من فشو ذلك وغلبته، حتى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم إلى أن سببوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه، وتثقيفها لمن زاغت عنه، فكان أول من أصّل ذلك وأعمل فكره فيه أبو الأسود الدؤلي، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن ابن هرمز، فوضعوا للنحو أبواباً.. إلخ ] (1)
وقال الدكتور عبد الجبار جعفر القزاز: [ لما
انتشر الإسلام واتصل العرب بغيرهم من الأقوام
ظهرت  الحاجة إلى صيانة القرآن الكريم من التصحيف والتحريف واللحن فاهتدى علماء العربية إلى وضع قواعد لضبط كلام الله حتى لا يلحن فيه قارؤه، وعبرت هذه القواعد عن نفسها بضوابط نحوية سهلة . . .  واستطاع الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثاني للهجرة أن يتم لعلم النحو كلياته . . . ](2).
2-المولَّدات والمولَّدون:
المولَّدات هي الألفاظ المولَّدة التي دخلت في اللغة العربية وليست منها وقد أحدث ذلك المولدون وهم الذين نشؤوا من آباء عرب وأمهات أعجميات في الغالب. فقد كان لذلك أثر عظيم في ضعف اللغة العربية عند أهلها. قال الإمام السيوطي: [ . . النوع الحادي والعشرون معرفة المُوَلَّد، وهو ما أحدثه المولَّدون الذين لا يحتج بألفاظهم؛ والفرق بينه وبين المصنوع أن المصنوع يورده صاحبه على أنه عربي فصيح،
وهذا بخلافه ، وفي مختصر العين للزبيدي:  المولَّد من الكلام: المحدث ](3).
على أن كثيراً من الناس المهتمين باللغة العربية
 وعلومها وخصوصاً المتأخرُ منهم يرون هذه الألفاظ المولدة مقبولة ولا حرج في التلفظ بها.
وهذا خلاف ما نميل إليه إذ أنه عند التوسع فيه يفضي إلى تلاشي اللغة العربية
 عند أهلها وكاد أن يحدث هذا
في زماننا لولا القرآن الكريم. . .
3-الانبهار بالحضارات والثقافات
 والعلوم للأمم الأخرى:
وقد بلغ الانبهار مبلغاً عظيماً، حتى إن ذوي التوجيه ومن بيدهم مقاليد الأمور عمدوا إلى ترجمة كتب اليونان والفرس والروم وغيرهم من الأمم إلى اللغة العربية، قال الدكتور عصام الدين محمد  علي: [ . . . وبذل  الخليفة العباسي المأمون جهداً عظيماً في استخدام الترجمة لنقل الكتب الفلسفية والعلمية من التراث اليوناني، وأنفق بسخاء لتحقيق تلك الغاية حتى إنه كان يعطي وزن ما يُتَرْجَمُ ذهباً، فانهال عليه المترجمون من كل حدبٍ وصوب، من الشام وفارس، منهم النساطرة واليعاقبة، والصابئة والمجوس، والروم والبراهمة، يساهمون جميعاً في حركة الترجمة من اليونانية والفارسية والسريانية
السنسكريتية  والنبطية واللاتينية وغيرها](4).
وهذا الانكباب على علوم وثقافات الأمم الأخرى والانبهار بمؤلفاتهم وطرائق تفكيرهم انسحب على مؤلفات كثير من المسلمين في مختلف العلوم الإسلامية الدينية واللغوية وغيرها. قال الدكتور عبد الجبار القزاز : [ . . . ولم يطل القرن الرابع على الدارسين حتى كانت الأذهان مهيأة لتقبل الأساليب الجديدة التي طرأت على الفكر العربي بعد وقوف الدارسين في بغداد على نتاج الفكر اليوناني والفكر الهندي وغيرها بعد ترجمته. وكان النحاة في مقدمة الدارسين الذين تأثروا بهذه الأساليب وكانوا على صلة بالفلاسفة والمناطقة والمتكلمين . . . إلى أن قال: فدخل في النحو ماليس نحواً فابتعد الدرس عن الهدف الأساس وصار غاية في نفسه لا وسيلة إلى محاكاة الفصحاء في تأليف الكلام، وصون اللسان عن الخطأ في المقال ](5).
4- وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة:
فمن يتابع  هذه الوسائل الإعلامية من صحف ومجلات وإذاعات وفضائيات . . . إلخ، يصاب بدُوار وإنزعاج، بسبب ما يجده من تشويه للدين والتاريخ والأخلاق، ناهيك عن اللغة الركيكة، والأساليب الفجة، وتغلب العامية على المذيعين والكتاب ومن يتسمى بألقاب الأدب والفكر والتوجيه والإرشاد - إلا من رحمه الله ممن بقي على دينه وعقيدته ولغته وهم كثر والحمد لله - ويتجلى أثر هذه الوسائل  في محاربة اللغة العربية وكذلك محاربة التاريخ الإسلامي، بل ومحاربة الإسلام نفسه وبشتى السبل والوسائل؛ إما محاربة صريحة جريئة واضحة بلا مواربة، وإما محاربة مستتره تحت شعارات متعددة، تارة بدعوى الحرية الفكرية، وطوراً بدعوى الحقيقة والبحث عنها، وغير ذلك من الأمور التي لا تنطلي إلا على البلهاء والسذج من الناس، قال أنور الجندي: [ . . .  ولقد أخضع أدباء العرب عن طريق الصحافة، الفكر الإسلامي والأدب العربي واللغة وتاريخ الإسلام والعرب إلى نظريات الاستشراق ومفاهيم المستشرقين التي هي عصارة سموم المؤسسات التبشيرية؛ وظهر في هذه الفترة استشراق غربي نصراني، واستشراق ماركسي، واستشراق صهيوني يهودي، وكل من هذه المنظمات يعمل في ميدان ولكنها تلتقي جميعاً على عملية الهدم ] (6)، وقال: [  . . . ولا يتوقف الأمر عند هذا بل نرى دعاة العامية والحروف اللاتينية تفسح لهم الصحف العربية أعمدة وتهتم بهم. . إلخ ](7) .وقال جمال سلطان:
[ . . . ولقد حدث أن سأل صحافي جزائري المستشرق الفرنسي المعاصر شارل بيلا  ماذا تقرأ الأدب العربي القديم أم الحديث ؟ فأجابه على الفور: بل أقرأ الأدب العربي القديم وحده ‍‍! فسأله الصحافي فزعاً: ولم لا تقرأ الأدب العربي الحديث ؟! فأجاب شارل بيلا: لأنه أدب  أوربي مكتوب باللغة العربية!!](8).
5-الاستعمار الحديث :
حيث إن المستعمرين على اختلاف أجناسهم وأديانهم قد حاربوا اللغة العربية سواءً عند العرب أو عند غيرهم من شعوب الإسلام التي استعمروها ، ونشروا مكانها لغاتهم مثل الانجليزية والفرنسية والإيطالية والأسبانية
والهولندية . . . إلخ.
قال الدكتور الداعي المربي عدنان النحوي:
 [ . . . ولقد اشتدت الحرب من أعداء الإسلام
 على اللغة العربية حرباً عاتية جنونية استخدموا لها كل وسائل المكر والكيد، وجندوا لها شياطين الإنس والجن، وامتدت الحرب قروناً طويلة لتمثل جانباً من جوانب المعركة ضد الإسلام . . وكادوا للغة العربية كيداً، ومكرو مكراً، ولا بد من أن نعترف بأنهم أصابوا شيئاً من النجاح، فقد برز من الأمة المسلمة ذاتها ومن داخلها، من يحارب اللغة العربية أو يسعى إلى طرح صوراً جديدة في الكتابة والكلمات والأدب تعزل المسلم عن دينه
وقرآنه . . . إلخ ](9).
وقال الدكتور مصطفى خالدي، والدكتور عمر فروخ في كتابهما التبشير في البلاد العربية:
 [ تشويه  الثقافة العربية والإسلامية وسيلة إلى الحط من  شأن العرب والمسلمين في نفوسهم، المبشرون وأنصارهم يشجعون اللغة العامية رمياً
إلى تفكيك وحدة العالم الإسلامي ](10).
6-صنائع الاستعمار:
اتخذ المستعمرون صنائع لهم من ضعاف النفوس الذين باعوا أنفسهم عبيداً لأعدائهم، اتخذوا منهم وسائل لبلوغ غاياتهم الشريرة، قال الشيخ محمد محمود الصواف -رحمه الله- : [ . . . إن الاستعمار الغادر على خبثه وجبروته، وقوته ودهائه - فإنه ماكر جبان - . . . إنه يعمد إلى تربية فئة من مواطنينا أو شراء ضمائرهم بالمال وهم من جلدتنا وممن يتكلمون بلغتنا وألسنتنا، ويربيهم على عينه، . . .  ثم يدفع بهم إلى مراكز القيادة الفكرية والاجتماعية والسياسية ](11) . وقد جاء خبر هؤلاء الصنائع دعاة الضلالة في حديث حذيفة بن اليمان  ، عن النبي  قال: { . . . قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ } قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: { نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا } قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: صِفْهُمْ لَنَا قَالَ: { هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا } قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ، قَالَ: { تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ } قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ قَالَ:
{ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ
عَلَى ذَلِكَ } (رواه الشيخان واللفظ للبخاري)  .
ورفع أولئك الصنائع الأدعياء شعارات، وصرخوا بصرخات يموهون بها على السذج والبسطاء، وجماهير الدهماء من العرب والمسلمين، مثل الحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان ، والمرأة، والتغني بالقومية أو الوطنية كذباً وزوراً، مما كان له المعول الأعظم في إضعاف صرح اللغة العربية الشامخ، قال الدكتور مصطفى خالدي ، والدكتور عمر فروخ: [ . . بمثل هذا يحارب المبشرون والمستعمرون العرب والإسلام. أما أشدُ ما نلقاه نحن فإن هؤلاء يستخدمون في هذا السبيل أفراداً منا أحياناً، أفراداً لا يتورعون أحياناً عن أن يسخروا العلم والضمير ، ويقلبوا الحقائق والأرقام رأساً على عقب حباً بالزلفى أو الاتجار . . . فإذا حمل المبشرون والمستعمرون العرب على الكتابة باللغة العامية أصبح لكل قطر عربي لغة خاصة به أو لغات متعددة ثم إذا هم استطاعوا أن يحملوا المسلمين على التخلي عن الحرف العربي وإحلال الحرف اللاتيني مكانه انقطعت صلة العرب تماماً بأدبهم القديم وبالمؤلفات الدينية واللغوية والأدبية، والتاريخية والفكرية . . . وكان زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة بالعامية وبالحرف اللاتيني الاستعماريون الفرنسيون وعلى رأسهم المستشرق الفرنسي والموظف في قسم الشئون الشرقية في وزارة الخارجية الفرنسية لويس ماسينيون ولقد حاول ماسينيون أن يبث دعوته هذه في المغرب، وفي مصر، وفي سوريا ولبنان خاصة  ] (12) ومن هؤلاء الصنائع من كان يروج ولا يزال لإحلال العامية محل اللغة العربية الفصحى، ومنهم من كان يروج لإحلال الحرف اللاتيني محل العربي، في الكتابة والتأليف والتدوين، في الدواوين الرسمية الحكومية والأهلية، ومنهم من كان ولا يزال يروج للنعرات العرقية مثل البربرية والكردية، والزنجية، ومنهم من كان يروج ولا يزال لنحلٍ مذهبيةٍ، أو طائفية ، أو دينية، ومنهم من كان ولا يزال يروج لدعواتٍ جاهلية من فرعونية ، أو فينيقيةٍ، أو سوماريةٍ، أو كنعانية، أو بابليةٍ، أو قومية، أو وطنيةٍ، أو حداثية، أو علمانية
إلحادية . . . إلخ، وللأسف الشديد إن هؤلاء يتسنمون ويتوسدون مراكز القيادة، والتوجيه، والتربية، والتعليم، والسياسة والاقتصاد والاجتماع، والحرب ، والسلم . . . إلخ، في جميع أنحاء البلاد الإسلامية، وسائر بلاد العالم ممن يسمى بالعالم الثالث أو البلاد النامية، أو على الأصح المنوّمة !!!.
قال الشيخ محمد محمود الصواف -رحمه الله-: [ . . . ومنها تمجيد وإحياء الحضارات القديمة كالحضارة الآشورية، والحضارة الفينيقية، والحضارة الفرعونية، وتسليط الأضواء عليها لينبهر بها الشباب المسلم وينسى حضارته الإسلامية الأصيلة . . . ومن هذه المخططات إنشاء المبادئ والمذاهب الهدامة كالماسونية والبهائية والقاديانية وغيرها، وإشغال المسلمين بها وإخراجهم من دينهم بواسطتها، وإنشاء الأحزاب السياسية المتناحرة، والمختلفة المبادئ والاتجاهات بزعامات فارغة يوجهها رجالٌ من الشرق والغرب، وهم جميعاً أعداء الإسلام ](13). هذه عجاله عاجلة في موضوعنا الهام الذي نحن بصدده تلقي الضوء على بعض الأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه من حالة مزرية في لغتنا التي هي لغة الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ولعل الله ييسر لهذه الأمة أن تعود إلى رشدها ورشادها في لغتها ودينها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

طباعة 2109

أنا العبد الفقير إلى الله الغني به عما سواه أبو عبد الله ياسين بن خالد بن أحمد الأسطل مواليد محافظة خان يونس في بلدة القرارة بعد عصر الأحد في 8ربيع الأول 1379 هجرية الموافق 21\9\1959 إفرنجية....

مــا رأيـك بـالـموقـع