الإيمان بالله
حقيقته . . . . لوازمه . . . . ثمرته
أخي القارئ العزيز . . قد سبق لنا الحديث عن الكفر بالطاغوت وحقيقته ولوازمه وثمرته، وحديثنا الآن عن الإيمان بالله فما هي حقيقته ؟ . . وما هي لوازمه ؟ . . وما هي ثمرته ؟، هذه الحلقة المباركة نتناول فيها حياة المهج والأرواح، والتي بها تتحقق حياة الأبدان والأشباح، نعم . . الإيمان بالله عز وجل دون سواه، وهو الركن الثاني لمن أراد أن يتمسك بالعروة الوثقى، وهذا ما جاء في قوله تعالى : {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}البقرة(256) . فهذان الركنان (الكفر بالطاغوت والإيمان بالله) هما كجناحي طائر لمن أراد السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة .
الإيمان بالله صلة مقدسة تصل المؤمن بالله عزوجل، وحقيقته أنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ومما يدل على ذلك قوله تعالى : {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون}الأنفال(2)
يقول القرطبي رحمه الله: ( ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله، ويترك اتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه والانقياد لحكمه ؛ ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وانقاد لأمره وخضع لذكره ) ا.هـ.، وقال ابن كثير رحمه الله : ( . . . وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ) ا.هـ.
وأما الإقرار والعمل ففي قوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون } الأحقاف(13-14) . وقوله تعالى : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين }فصلت(33) وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله وقد سأله رجل يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال : { قل آمنت بالله ثم استقم }، ومن ذلك حديثه صلى الله عليه وسلم المروي في الصحيحين وغيرهما :{ الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق } هذا لفظ مسلم . فتأمل يرحمك الله قول لا إله إلا الله أعلى شعبة في الإيمان وهو عمل اللسان المعبر عما فيجوانح المؤمن، وإماطة الأذى عن الطريق وهي الترجمة العملية بالجوارح لهذا القول .
فلا ينفع القول دون العمل، ولا ينفع القول والعمل دون الإخلاص والنية، ولذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل حارثة رضي الله عنه كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال : أصبحت مؤمناً حقاً، فقال له : إن لكل قول حقيقة فما هي حقيقة إيمانك ؟ فقال : يا رسول الله : أسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، فأصبحت كأني أرى ملائكة ربي، قال : عرفت فالزم، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه : ( هلموا نَزْدَدْ إيمانًا ) . فيذكرون الله عز وجل . وقد سمعت مرارًا شيخي الشيخ حماد الأنصاري - رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه آمين - يذكر عن الإمام البخاري قوله : ( كتبت عن ألف رجل كلهم يقولون الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص )ا.هـ. وقد لازمت أنا العبد الضعيف راقم هذه السطور شيخي الشيخ حماد رحمه الله في دروسه في بيته ثلاث سنين في ثلة من علماء المدينة وطلبتها نطلب العلم عليه، وقد آثرني من بينهم بالقراءة بين يديه من كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله، وقد كان يشرحه لنا شرحًا مستفيضًا أثابه الله خير الثواب، وقد سمعته يقول في دروسه غير مرة : ( الإيمان خمس نونات : تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان ) ا.هـ.
ومن وقرت حقيقة الإيمان في قلبه، ظهرت علامات الخير، وأمارات الفضيلة على محياه، وصار الإحسان رفيقه صباحه ومساه، فقلبه :
1- منيب إلى الله، قال سبحانه: {هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ*من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}ق(32-33).
2-وهو بهذا مطمئن بذكر الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}الرعد(28).
3- وهو ملازم للطاعات بالغداة والعشي يريد وجه الله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا . . . }الكهف(28).
4- ولسانه لسان صدق لا كذب، قال تعالى : { ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليًا} مريم(50)، وقال سبحانه : { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } الشعراء(84).
5- وسمعه سمع خير، كما قال تعالى : { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } الروم(23).
6- وبصره بصر عبرة وحق، كما قال سبحانه : { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } آل عمران(13)، وذلك لأنه : { ما زاغ البصر وما طغى } النجم(17).
7- ويداه يسعى بينها النور يوم القيامة لأنهما كانتا على الهدى في الدنيا، قال جل شأنه : { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم }التحريم(8).
8- ورجلاه تمشي دائمًا إلى مواطن الهدى والخير، قال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا } الإسراء(19)،ولذلك إذا سمع النداء للصلاة سعى إليها، قال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله . . . }الجمعة(9).
وإذا كان الإيمان بهذه الحقيقة وهذه اللوازم كلها مستقرًا في القلب والجوارح أثمر الثمرة الكبرى ففي الحديث القدسي الذي رواه البخاري بسنده إلى أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة قال : { . . . وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ . . .} .
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من هؤلاء المؤمنين الذين أحبوا الله فأحبهم، ورضي عنهم فرضوا عنه