هل المرء مخبوء تحت لسانه ؟!!
لقد قيل منذ القدم ؛ تكلم حتى أعرف من أنت ، وبمعناه المرء مخبوء تحت لسانه، وصاغ ذلك الشاعر زهير بن أبي سلمى فقال :
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وفي الحكمة العربية ] إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه [، وهذا في قديم الزمان حينما كانت الكلمة مقدسة تعبر عن مكنونات القلوب، ودخائل النفوس، فلقد كانوا يأنفون من الكذب قبل الإسلام، فكيف في الإسلام ؟! فهذا أبو سفيان وهو على شركه حينما جاءوا إلى هرقل ملك الروم وهو في بلاد الشام فسأله عن النبي e هل يغدر؟ فقال أبو سفيان : } لا إلا أنّا في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال ولم يمكنني أن أدخل كلمة إلا هذه ولولا أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت { . اهـ
وقد كانوا يذهبون إلى التعريض والتورية حتى لا يقعوا في الكذب كما جاء في الحديث ] إن في المعاريض مندوحة عن الكذب [ فهل بقيت الكلمة في هذا الزمان على طهرها القديم، ونقائها الصافي ؟! ..
الجواب معلوم لديك أيها القارئ العزيز؛ فالكلمة في هذا الزمان لها بريقها، ولها صلصلتها وجلجلتها، ولكن كما قيل : (( أسمع جعجعة ولا أرى طحناً ))(*) كلمة عريت عن معناها، وشغلنا عن مدلولها مبناها، كَلِـمَة هي في الحقيقة كلْمَة أو بالأحرى لـَكْـمَة، تكلِمُ وتلكُم الفؤاد، وإن كثر الكلام وتنوع ما بين مسموع ومقروء، وإن تعدد المتكلمون عبر الأثير أو على صفحات الأوراق أو فوق أعواد المنابر إلا ما ومن رحم ربي، واليوم تطالعنا الأيام والليالي بالأسماء الطنانة والألقاب الرنانة والعبارات الجزلة والصحف والمجلات والنشرات والروايات والأدبيات والدواوين ..الخ على اختلاف مشاربها، وتنوع أساليبها، وقامت سوق للصحافة والصحافيين والمعاهد وكليات ووزارات للإعلام والثقافة و الصحافة .. الخ، وتعددت وسائل وأدوات الإعلام من إذاعة مسموعة ومرئية وإلكترونية " الإنترنت " وصحافة، حتى إن الصحافة لتعد في بعض البلاد السلطة الرابعة كما يقال، وتنادي القوم بحرية الكلمة وحرية الرأي، وحرية الصحافة ... الخ .
وإننا حري بنا أن نستذكر قول النبي e : ] من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت [ رواه البخاري، وقوله : ] الكلمة الطيبة صدقة [ ، وصدق من قال : (( رحم الله من قال خيراً فغنم أو سكت فسلم )) .
ولكن أين الكلمة التي تعبر عن الآلام والآمال ؟ ، أين الكلمة التي تنطلق من القلب إلى القلب، أين الكلمة التي يبعث عن كتابتها أو إلقائها الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وابتغاء الأجر والمثوبة منه، والوفاء لهذا الدين، ولهذه العقيدة، ولهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، بل ولهذا التاريخ الذي هو في الحقيقة صفحات الحياة للأجيال كلها، أين الكلمة المنبعثة من قلب ووجدان وشعور صادق صدوق ؟، صادق في انتمائه، صدوق في تعبيره، الكلمة التي ليست صدىً لقلب ولا لوجدان ولا لشعور غريب عن هذه الأمة، وغريب عن هذا الدين، وغريب عن هذه البلاد، وغريب عن هذه اللغة، وغريب عن هذا التاريخ، إننا نريدها كلمة صادقة معبرة، باعثها الإخلاص، ورائدها الانتماء، يحدوها الوفاء ويسوقها الإخاء، كلمة تجمع ولا تفرق، كلمة تنصح ولا تفضح، كلمة طيبة بكل معاني الخير وكما قال الله تعالى : ) ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ( .
إننا الآن في مرحلة خطيرة من مراحل حياتنا مرحلة نبني فيها ونؤسس لمجتمع فاضل، ونشيد لحياة كريمة، ولن نفلح مطلقاً إن كنا صدىً للآخرين في أنماط تفكيرهم، وثقافاتهم، وأقوالهم، وأعمالهم فلكل أمة طابعها الخاص، وصبغتها الذاتية، ونحن أمة من الأمم لنا طابعنا، ولنا صبغتنا(*) ولنا لوننا، إن نحن حافظنا على خصوصياتنا وصلنا إلى ما نريد، وإن نحن ضيعناها ضعنا وسط الموج المتلاطم، فأيما أمة انسلخت من وجدانها وتاريخها وأصالتها لا تستحق الحياة، ولا تستحق الوجود، وإنما توجد في ظلال الأمة الأخرى التي تزيت بزيها واستظلت بظلالها، وحينئذٍ تكون أمة عبيد أذلاء للآخرين تستجدي لقمتها، وتستجدي شربتها، وتستجدي زيها بل وتستجدي هواءها الذي تتنفسه(**) .